لـماذا يَختطِف الـموت بعض الأفراد قبل أوان رحيلهم، ويبقي على بعض الأفراد الذين شبعوا من الـحياة ووقفوا على عتبة باب الأبدية ينظرون من يقول لهم «ادخلوا» ليلجوا الباب ويقضوا؟ لـماذا يَأخذ الوطني الذي يعمل في سبيل الوطنية والإنسانية، ويَترك الـخائن الذي يبيع الوطن والإنسانية؟ لـماذا يجرَّع الغصص بعض من لم يأتِ دور كأسه، ويسقى خمراً بعض الذين هم أولى بتجرع الغصص؟
لا أدري - ولكني أدري أنّ الـموت لا يـميز بيـن الشجاع والـجبان، ولا بيـن الكريـم والشحيح، ولا بيـن الوطني وعاق الوطن، ولا بيـن الرجل الغيري الفاضل والرجل الأناني اللئيم، ولكن البشر يـميزون!
ليست قيمة الأديب في عيـن الـموت بأكبر من قيمة الغني، ولا قيمة العالِم بأكبر من قيمة الـجاهل. فالناس في عيـن الـموت سواء. لذلك تراه يأخذ ولا يدري من يأخذ، ويترك ولا يدري من يترك.
منذ بضعة أسابيع توفي في الـحاضرة شاب هو الأديب يوسف ابراهيم اليازجي. اختطفه الـموت وهو لا يزال في مقتبل العمر وريعان الشباب. ولقد كان من الوطنييـن الأحرار الـمتقدين غيرة على الوطن، وجندياً مدافعاً عن الـحرية الوطنية ومؤيداً الـحقوق الإنسانية، حسامه القلم وجواده الإخلاص.
كان أحد أولئك الأفراد الذين عرفوا أنّ مصير الدنيا إلى الفناء، فلم يجتهد في إقامة الصروح وتشييد القصور. ولكنه كان يعمل لأجل الوطن وفائدة الإنسانية، وقد قدم لهما خدمات كثيرة. وهنالك شيء من هذه الـخدمات التي قام بها الفقيد مثبوت في صفحات الـجرائد والـمجلات.
كان لا يزال في بدء جهاده وأول عزمه سائراً في أعماله بهمة صادقة، وأمانة شديدة، وأمل كبير. ولكن الـمنية لم تـمهله إلى أن يكون قد أتـم ما بدأه بل اختطفته من وسط جيشه وإخوانه، وهي لو درت ما فعلت لانتحرت.
منذ عرفت الفقيد عرفت فيه صديقاً صادقاً ورجلاً شهماً وأديباً ذكياً ذا مبادىء سامية ومقاصد شريفة. وكان بيني وبينه صداقة لن يـمحوها من ذاكرتي مرور الأيام وكرور الأعوام، كان الفقيد فيها مثالاً للصداقة الـمتينة الشريفة.
الـموت لم يدرِ من أخذ ولا الـخسارة التي ألـحقها بالأدب والوطن والإنسانية. ولكني أنا دريت، والأدباء الوطنيون ومحبو الإنسانية الذين عرفوا الفقيد دروا.
ولقد جرى له مأتـم مهيب تـجلت فيه منزلة الأديب عند عارفي قدره. لم يكن فيه شيء من الـمجاملات العزائية التي تقام أحياناً لبعض عبدة الـمال حباً بأموالهم، بل كان فيه أسى شديد وحزن حقيقي عميق.
أما أنا فقد شيعت الفقيد إلى مثواه الأخير وأنا أحرى بأن أُعزّى مني بأن أُعزّي. وبعد أن وُري التراب عدت وأنا أفكر في حال هذه الدنيا، وأردد لنفسي هذه العبارات: البقاء في هذه الدنيا محال. والرجل الباقي هو الذي يبقى ذكره. فلئن كنت أيها الصديق العزيز يوسف قد سبقتنا وذهبت إلى دار الأبدية، فإن ذكرك باقٍ فينا ما حيينا.
الأسيف: أنطون سعاده